تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

البحث

ولد الذهبي.. المحافظ الذي يقود تحديث البنك المركزي "مهما كلف الأمر"

في اليوم الأخير من مارس 2022 صدر مرسوم رئاسي بتعيين محمد الأمين ولد الذهبي محافظا للبنك المركزي الموريتاني، وقد شكل هذا القرار مفاجأة للرجل الذي كان منهمكا –كوزير للمالية- في إصلاح السياسات المالية وقيادة برامج متعددة للتغلب على الاختلالات المتجذرة في القطاع المالي وتلك التي طرأت بفعل كوفيد 19، وإكراهات الصراعات الدولية المتفاقمة.

 

هكذا وفي مساء ذلك اليوم صار على ولد الذهبي (المولود 1966 بازويرات)، والحائز على شهادة دكتوراه في العلوم الاقتصادية عام 2004 من جامعة Sophia-Antipolis, Nice, في فرنسا، أن يستثمر كفاءته الأكاديمية وتجربته الممتدة لما يربو على ثلاثة عقود داخل أروقة وزارة المالية (تكللت بتعينه وزيرا للمالية في 08 أغشت 2019)، في قيادة دفة السياسة النقدية الوطنية في سياق عالمي ومحلي لم يتعاف بعد من آثار جائحة كوفيد-19، ولا يزال يعاني من ارتفاع معدلات التضخم بأثر من السياسات النقدية التوسعية التي لجأ له إبان الجائحة. 

 

هكذا وجد ولد الذهبي نفسه أمام مشهد وإن لم يبدو جديدا عليه، فقد بدا مربكا على الأقل، فهو من جهة مطالب بقيادة سياسة نقدية ملائمة (تحارب التضخم وتحقق النمو المستدام وتحافظ على الاستقرار المالي)، ومن جهة أخرى يتعين عليه تحديث وعصرنة البنية التحتية المالية وإصلاح سوق الصرف، وتحضير الاقتصاد الوطني لاستيعاب عائدات الغاز، تماما مثلما هو مطالب  ببناء أوعية قانونية وتنظيمية لتنظيم ورقابة التكنولوجيا المالية وأنظمة الدفع، وقيادة سياسات وطنية في مجال الشمول المالي،  وغيرها من التحديات التي تراكمت طيلة العقود الماضية نتيجة لغياب الرؤية الملائمة عن دفة القيادة في البنك المركزي. 

 

 

 

- مهما كلف الأمر whatever it takes

في خطابه الشهير إبان أزمة الديون السيادية في منطقة اليورو رفع ماريو دراجي (Mario Draghi)، الرئيس السابق للبنك المركزي الأوروبي، شعار (مهما كلف الأمر whatever it takes)، في إشارة قوية إلى أن البنك المركزي الأوربي سيستخدم قوة تفويضه للحفاظ على اليورو ومن ثمة الاستقرار المالي والنقدي للاتحاد الأوربي. وقد أدى هذا التصريح (الذي صار لاحقا ذا دلالة قوية في عالم الاقتصاد) في حينه إلى تهدئة الأسواق بعد موجة ذعر كادت تخرج عن السيطرة.  وهذا بالتحديد ما فعله ولد الذهبي، رغم تباين السياقين.

 

 رفع ولد الذهبي شعار "مهما كلف الأمر"، وإن بمضامين تتناسب مع الحالة الموريتانية، فمنذ يومه الأول في مكتبه الجديد في الطابق الأول وسط البنك المركزي، بدا المحافظ الجديد عازما على أن ينقل هذه المؤسسة إلى آفاق أرحب وفق رؤية استراتيجية متكاملة ذات أبعاد متعددة، وقد وجد في سبيل ذلك عقبات جمة، ليس أقلها الثقافة التنظيمية التي كانت سائدة داخل هذه المؤسسة المغلقة، وكذا الأساليب التقليدية في التنظيم والعمل والإدارة، وضعف الابتكار وافتقاد الأفراد إلى الروح التحفيزية المناسبة، وغياب الصرامة المطلوبة في إحداث التغيير.

 

 

مقاربات استراتيجية ..

أطلق "ولد الذهبي" مستعينا بشخصيته الديناميكية وقدرته على اتخاذ القرارات الحاسمة، واطلاعه الواسع على المشهد الاقتصادي الوطني وولعه الشديد بالقراءة في كل ما هو جديد في مجال الاقتصاد والبنوك والتكنولوجيا المالية ..، واستيعابه الفطن لآراء الخبراء؛ مشروعا تحديثا صارما، يستند في جوهره إلى الطبيعة العامة للاقتصاد الوطني، والظرف الاستثنائي الذي يمر به الاقتصاد العالمي، كما يتكئ على رؤية إصلاحية استباقية موزونة. ليجد البنك المركزي نفسه ودون ضجيج أمام عملية اصلاح وتحديث شاملة، هذه بعض ملامحها: 

 

•    تعديل النظام الأساسي للبنك ليتلاءم مع متطلبات التوسع في مجال التكنولوجيا المالية ويستوعب وينظم أنظمة الدفع ويواكب الديناميكيات الجديدة في مجال الأسواق والاستثمار، وليثري الهيئات القيادية داخل البنك المركزي ويعزز من استقلاليته الإدارية والمالية.

 

•    تحسين إدارة الاحتياطيات النقدية، وهي عنصر أساسي للحفاظ على الاستقرار النقدي في مواجهة الضغوط الاقتصادية العالمية.

 

•     إصلاح سوق الصرف لتحضير البلاد بشكل أفضل لاستيعاب العائدات المستقبلية من مشاريع الغاز، وتمثل هذه الخطوة تطورا نوعيا في بنية النظام المالي الوطني.

 

•    تحديث البنية المالية التحتية عبر سلسلة من الخطوات أدخل بموجبها عددا من الأنظمة التي ستمكن من إحداث تغيير استراتيجي في فعالية البنك المركزي، ومن ذلك إدخال نظام التحويل التلقائي (ATS) ونظام الحفظ المركزي للأوراق المالية (CSD) ونظام المقاصة الآلي وذلك بهدف تعزيز الكفاءة والأمان وسرعة العمليات المالية، وتسير الجهود الآن لإطلاق نظام Core Banking System (CBS) كنظام معلوماتي يمكنه أن يمركز كافة البيانات ويقوم بالعمليات البنكية بشكل فوري وبسلاسة ودقة ووفق أعلى شروط الأمان. 

 

•    تنظيم مجال التكنولوجيا المالية وخصوصا أنظمة الدفع والمقاصة، ووضع أطر قانونية لذلك، بل واستحداث هيئة قيادية مداولة في مشروع النظام الأساسي الجديد لغرض ضمان الاستقرار المالي في مجال أنظمة الدفع. ينضاف لذلك توقيع اتفاق لإنشاء "الأوقية الرقمية" مع شركة (Giesecke+Devrient (G+D.

 

•    وضع استراتيجيات وطنية للشمول المالي، والدفع الرقمي، وبذل جهود حثيثة لتعزيز الشمول المالي في البلاد، وذلك من خلال مجموعة من المبادرات والسياسات الهادفة إلى توسيع نطاق الخدمات المالية لتشمل جميع فئات المجتمع، كما يعمل البنك على تنفيذ برامج توعية وتثقيف مالي لزيادة الوعي حول أهمية استخدام الخدمات المالية الرسمية وتعزيز الثقة في النظام المصرفي. 

 

 

لا يزال الشوط طويلا..

مع كل ما سبق ذكره؛ فإن ثمة تحديات كثيرة على ولد الذهبي –وفق ما ترى مؤسسات التمويل الدولية-مواجهتها وابتكار أساليب حديثة وفعالة لتجاوزها. منها تحدي الحفاظ على مستويات كافية من الاحتياطيات الأجنبية في ظل ضغوط اقتصادية عالمية. (تقارير صندوق النقد الدولي تشير إلى أن موريتانيا تواجه تحديات في إدارة احتياطاتها النقدية بسبب تقلبات أسعار السلع الأساسية مثل الحديد والنفط، بالإضافة إلى تأثيرات جائحة كوفيد-19).

 

 ومنها أيضا تعزيز الشمول المالي، كما سيتعين على البنك المركزي الاستعداد لعائدات الغاز بما يدعم تحقيق أهداف التنمية المستدامة وتحقيق التوازن بين الإنفاق الحالي والادخار للمستقبل.

 

 

سؤال النجاح في المهمة الصعبة؟

في كواليس الإدارة الموريتانية يعرف ولد الذهبي بالصرامة ونظافة اليد، فهو ليس ذلك المسؤول الذي يمكن التأثير عليه بالترغيب ولا بالترهيب، ولا يتصرف إلا وفق ما يراه هو صحيحا، وفق ما ينقل عنه عارفون به، فهل ينجح فيما يرمي إليه؟ وهل ستجدي سياسة "مهما كلف الأمر" في نقل البنك المركزي الموريتاني من مؤسسة كلاسيكية ينحصر دورها في رفع أو خفض أسعار الفائدة، إلى مؤسسة حديثة تعلب دورها كاملا في تشكيل الاقتصاد الوطني؟

 

الأشهر والسنوات القليلة القادمة كفيلة بتقديم الإجابة الشافية، وهي إجابة نسبية إلى درجة كبيرة، وقد لا تخلو من كثير من الحسابات والأرقام.

00:21 - 2024/09/05